إسرائيل قوةٌ عسكريةٌ لن تنكسر من حيث هي قوة عسكرية لأنها مدعومةٌ من أميركا وليس في الأفق ما يشير إلى أن أميركا ستتخلى عن تفوق إسرائيل عسكرياً كشرط لبقائها، ولكن أميركا لا تملك ولن تملك القدرة على حماية القوة المعنوية لإسرائيل، لأن إسرائيل هي من ستهزم معنوياتها بإمعانها المستمر على رفض «حل الدولتين»، وهي ترفضها لأنها لا تستطيع إقناع متطرفيها والمستوطنين بتقبل الفكرة، ومن ثم فهي في النهاية تُقوي «اليمين المتطرف» فيها وتمنحه القدرة على تملك زمام القرار، وهذا سينتهي بها إلى أن تكون عاجزةً عن حل مشكلة علاقاتها مع بيئتها، وبالتالي ستتلاشى أسباب ضمان بقائها في جوار آمن ومسالم، بينما الجانب العربي ظل واقعياً ومنطقياً وتفاوضياً، مقابل لاتفاوضية إسرائيل. والزمن يثبت مرةً تلو أخرى أن قوة إسرائيل العسكرية لم تفلح بحمايتها وتحصينها، وكلما أحست بالتحصن جاءها أمر يعري حصانتها، ثم يأتي رد فعلها عنيفاً مما يعري مناعتها المعنوية وهكذا هي سيرتها الذهنية والعملية.
ولقد جربت قوى تقليدية هذه اللعبة الخطرة من حيث اعتمادها على الجانب المنيع فيها ولكن تكشف لها أن القوة تتضاد مع القيم المعنوية وهذا ما فهمه «ديجول» حين رأى بعقله الثاقب أن استمرار فرنسا في العنف ضد الجزائر لم يحقق لفرنسا أي مكسب لإدامة استعمار الجزائر، وأن كل عنف فرنسي يقابله مقاومة جزائرية مع فارق قيمي بين المحتل وأصحاب الأرض، الذين لم يستكينوا ولم يستسلموا وظلوا يزدادون قوةً وصلابةً.
وكل دم جزائري يُسفك إنما هو حبر يكتب عار فرنسا، ومن ثم أدرك «ديغول» أن فرنسا أخذت تستنفد رصيدها المعنوي والقيمي بسبب تعنتها ضد استقلال الجزائر، فاتخذ قراره الشجاع بسحب قواته وتسليم البلد لأهله ( 1962)، لأنه اكتشف أن للأرض هويةً ولغةً وولاءً، لا يمكن تبديله ونسخه وإحلال غيره محله مهما كانت صفة أو قوة أو حضارة البلد الدخيل ويظل دخيلاً رغم طول الزمن وتعالي القوة المادية، ذاك لأن شروط القوة المعنوية تختلف عن معطيات القوة العسكرية.
وقبل ذلك أقدم أبراهام لينكون على إلغاء قانون الرق عام 1863 لأنه عرف أن القيمة المعنوية للولايات المتحدة لن تظل عميقةً إذا ما استمر استعباد كتلة ضخمة من مواطنيها، وهذا هو الدرس الذي لن تسلم إسرائيل من تجرع مراراته بين أن تفقد حصانتها المعنوية أو ترضى بالعيش المشترك في جوار آمن تتمكن من العيش فيه بسلام، وليس أمام إسرائيل سوى «حل الدولتين»، أو ستقع في واحدة من حربين إما حرب مفتوحة دوماً مع الفلسطينيين، أو حرب أهلية بين يمين ويسار تفكك البنية الإسرائيلية ذهنياً وماديًا، وهي حروب ستصبغ مستقبل إسرائيل إنْ لم تتقبل الحل العربي كشرط للبقاء والأمان. واليمين الإسرائيلي المتطرف وحده هو المرشح لهزيمة إسرائيل من داخلها بسبب جنونه في التفكير وفي الفعل، ومن ثم سيؤدي إلى انهيار فكرة حلمها، الذي تجاوز مرحلة الحلم ليصبح كابوساً عليها وعلى جيرانها.
*كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض